◄العلاقة بين الإنسان الفرد والبيئة من حوله والمجتمع الذي يعيش فيه، علاقة قديمة قدم الزمان. مضت ملايين السنين قبل أن يتدخل الإنسان ليغير من شكل البيئة بالمنشآت والمباني والمصانع وتخطيط الحقول وتنظيم الري وإزالة الغابات وما إلى ذلك.
كانت قبائل وجماعات متفرقة تسعى على وجه البسيطة من أجل الغذاء وحفظ النوع مثل باقي الكائنات. اعتقد لبعض الوقت أنّ بين الحيوانات مَن هي أرفع منه شأناً وأوسع حيلة. والتغيير البطيء الذي أدخله على البيئة، لم يكن جمالياً بقدر ما كان نفعياً يساعده على الدفاع عن نفسه ضد ذوات الظفر والناب، وحمايتها من مصائب العواصف والسيول والفيضانات والثلوج والشمس الحارقة.
انتقى الأحجار وفروع الأشجار واختار من بينها أدوات تنفعه في حياته اليومية حين اكتشف العلاقة بين الشكل والوظيفة. وكانت الخطوة التالية أن استبعد أجزاء من تلك الفروع والأحجار حتى يتحسن شكلها وتصبح أيسر استخداماً وأدق أداءً، فظهرت أولى الحرف التي لدينا شواهد عليها. نتعرف بها على المرحلة الباليثوية من التطور الإنساني. أب العصر الحجري القديم منذ قرابة 35000 سنة، حيث نلتقي ببواكير الأعمال الفنية للجنس البشري، والإجابات الشافية لتساؤلات تاريخ الفن عن بدايات الإبداع والدوافع إليه.
بلغت الأعمال الإبداعية الباكرة لإنسان العصر الباليوليثي حداً من البراعة والإتقان، ينأى بها عن الصفة البدائية. تشير برهافتها وحيويتها وتعبيراتها ودقة تنفيذها إلى آلاف السنين السابقة من النمو البطيء، التي لا نعرف عنها شيئاً، منذ أن نفصل الإنسان عن عالم الحيوان ورفع رأسه عن الأرض، وأحس بجمال البيئة من حوله بما فيها من أشجار وأنهار وجبال وصحاري، ونسج الأساطير في خياله الخصب حول آلهة القمر، وتوسل بالسحر والقوى الخفية، للسيطرة على فرائسه من الخيول والثيران. وترك آثاراً حفظتها الكهوف عشرات الألوف من السنين. وقد صنف الباحثون إنسان الكهوف في مجموعات تنسب إلى الأدوات والآثار التي خلفها، وإلى أهمية الدور الذي لعبه الفن في حياته. ومن روائع الفن الباليوليثي، صور الحيوانات المرسومة أو المحفورة أو المنحوتة في صخور كهف "التاميرا" في شمال إسبانيا، صورة البيسون الجريح أو الحيوان المحتضر المنهار.
يجمع الباحثون على أنّ هذا الإبداع كان يؤدي وظيفة عملية شعائرية سحرية، لضمان نجاح الصيد وليس لزخرفة الجدران. يؤكد هذا الزعم أنّ معظم الصور موجودة في حجرات خاصة يصعب الوصول إليها من خلال الممرات الضيقة. مما يوحي بما للأعمال من مكانة خاصة.
هذا الإبداع الفني وأسلوب تشكيله وموضوعاته وخاماته، فرضته البيئة الحضارية المتخلفة وثقافة المجتمع القائم بما تتضمنه من تقاليد ومعتقدات وأسلوب حياة. ففي بقاع أخرى في ذلك الزمن البعيد. كانت تختلف ثقافة القبائل الصيادة فيتغير أسلوبها في الرسوم بما يناسب معتقداتها.
فالعلاقة حميمة بين الثقافة والحضارة من ناحية، والذوق والفن من ناحية أخرى. تتضح هذه العلاقة في المجتمعات البدائية التي تعيش معنا اليوم، في مناطق متفرقة من القارات الخمس. ففي قبائل وسط غرب إفريقيا تؤثر البيئة الوحشية والثقافة المتخلفة على الحياة اليومية بكلّ أبعادها.
اختلط فيها الفن بالعقائد والتقاليد والسلوك العام. هذه المفاهيم والمدركات والعادات والتقاليد وأسلوب الحياة اليومية، هي التي تكوّن ما نسميه "ثقافة المجتمع"، ويقع الذوق والإبداع ضمن هذه المنظومة يتفاعل معها أخذاً وعطاءً وتأثراً وتأثيراً.
أمّا البيئة الحضارية فتحددها ضوابط تكنولوجيا التنفيذ، وشكل الصور التي يتخيلها الفنانون. فالحضارة تتعلق بالماديات والعلوم أكثر منها بالمعنويات والفنون. الأمر الذي يجعلها جزءاً من الثقافة والعكس غير صحيح. ومنذ أربعين ألف سنة، لم تكن ثمة أضواء صناعية غير ما ينبعث من المشاعل، لذلك اكتست الصور الجميلة في جدران الكهوف بشوائب سوداء من تأثير النساج أثناء عملية الرسم في الغرف المظلمة. ولم يستخدم الرسامون سوى ألوان صخرية يسودها الأحمر والأصفر والأسود.
فإنّ الإتقان الواقعي والتعبير القوي والحيوية الفياضة والصفات الرفيعة التي تتصف بها تلك الأعمال، مرجعها إلى الثقافة الاجتماعية التي رأت فيها قوة سحرية تحدد نوع الفريسة وتوقع بها. واختلفت الثقافات فتغيرت الصور التي رسمها كهنة القبيلة، وظهرت أحشاء الحيوان.
وأطلق الباحثون على هذا الأسلوب اسم (طريقة أشعة إكس) عثروا على نماذجه محفورة على عظام من العصر المجدليني (1300-6000 سنة ق. م) ومن المعروف أنّ القيمة الوظيفية للفن كانت مندمجة في القيمة الاستطيقية – أي الجمالية فنياً – أو ما يسمى (الذوق) أو (الفعل الجمالي). يتضح هذا الدور العملي للفن في المجتمعات البدائية وما قبل التاريخ فيما يتصل بالسحر والتعليم والشعائر الدينية والطقوس الاجتماعية، حيث تتضافر كلّ الفنون لتشحن القبيلة بروح القتال مثلاً. فتقام عروض مسرحية موسيقية راقصة تشكيلية أدبية.
تطور هذا الدور الفني في المجتمعات المتقدمة الأكثر تعقيداً حتى تضمن ما نعرفه اليوم باسم (المتعة العقلية) و(الموقف الجمالي) انعكاساً لثقافة مجتمع (الروبوت) وعصر الفضاء والتكنولوجيا والعولمة.►
المصدر: كتاب دراسات فلسفية في الفنون التشكيلية
مقالات ذات صلة
ارسال التعليق